لم يخطر ببالي أنني كنت أكتب أدب حرب .. عبر قصصي القصيرة أثناء حرب أكتوبر
اقتحام بؤر الأخطار مثلت ذروة البطولة .. فالجندي لا يفكر في الموت بل يدافع عن الحياة
المقاومة دفعتني إلى الكتابة للأطفال .. فأنجزت 22 كتابا حتى الآن
ولد والشعارات تخرج من القلوب للحناجر، وترعرع ومصر تبني السد، واستقبل قوة الشباب على جبهة القتال، من يومها لم يعد من ساحة القتال، تغير السلاح من تسليح خفيف وتسليح شخصي وأدوات جراحة إلى القلم والقلم والقلم. عن حربه في جبهة القتال والحياة الأدبية نحاوره..
* "عبد الناصر قال إيه النهاردا" ما علاقة هذه الجملة بتوجهك نحو الكتابة منذ سن مبكرة؟
- خلال فترة الطفولة المبكرة والصبا كانت الوطنية والانتماء وحب مصر، أن تتابع وتحب عبد الناصر. هل كان هذا بسبب حجم اﻹعلام المكثف على عقولنا نحن النشء فى المدارس والراديو ومن بعد الصحف والتليفزيون؟ أم بسبب أننا صدقنا الرجل ببساطة تعبيره وقوة شكيمته التي لا نعرف معناها، ولكننا فى تلك السنوات من العمر كنا نستشعرها.
تلاحظ أني بدأت أتحدث بضمير الجماعة، وهذا طبيعي وحقيقي فرغم أن هناك جيلا تأثر بعبد الناصر مباشرة بلا مناقشة وهو جيلي.. فإن هناك جيلا سبقنا أو جيلين كانت عندهما خبرة طرح الأفكار والأسئلة، ومع ذلك منهم من رفض الرجل ومنهم من انضم ﺇلى النشء.. يمكن ببساطة الاعتراف بأني تعلقت بعبد الناصر الخطيب القوي والسياسي صاحب المنجزات، ولم أشعر بغير هذا التعلق طوال السنوات الأولى من العمر.
الطريف أن أبي انتبه لتلك الحالة، فعمل على تعضيدها بذكاء أُقدِّره الآن.. حيث كان يتعمد أن يتابعنى، وأنا حريص على اﻹستماع لخطبه من الراديو المعلق فوق الرف الخشبى الخاص على الحائط الجانبى لصالة الشقة، ولأنه معلق بحيث لا تصل أذرع الأطفال الأشقياء ﺇليه أنا واخوتي، وأنا أولهم، كنت أشد كرسى السفرة المنصوبة فى الصالة واقف أفتح الراديو وأتابع خطبه.عبد الناصر.. يتركني أبى أفعل ما فعلته للاستماع لخطبة عبد الناصر، ومع ذلك ينبهنى إلى أنه سوف يستمع منى عما قاله عبد الناصر بعد قراءة الخطبة فى صحيفة الأهرام حيث تشغل الخطبة أكثر من نصف صفحات الجريدة؟!
ويأتى أبي بعد الظهر لتناول الغداء ويبدأ وهو يخبرنى بمتابعة كل ما سوف أقصه عن خطبة عبد الناصر.. تماما كما يتابع تناول غدائه بكل اﻹهتمام، الطريف أنه دوما يدعى جهله بما قال به عبد الناصر، ويبدأ حديثه معى بتلك الجملة التى سردتها:"عبد الناصر قال إيه النهاردة أو امبارح" حسب الأحوال.
* كيف أثرت الأحداث السياسية الكبرى مثل حرب السويس، وبناء السد العالي في توجيهك للكتابة وفي نوعية ما تكتب؟
تعلقي بعبد الناصر وبصوته الواثق وكلماته الحماسية جعلني أتابع الأحداث السياسية الداخلية والخارجية. وهو ما دفعني لأن أكتب، وأنا فى سن العاشرة بعد سنتين من حرب بور سعيد أو العدوان الثلاثي، وفى الذكرى الثانية للحرب والانتصار على ثلاث دول، وغروب الشمس عن إمبراطورية بريطانيا العظمى، ثم عرفت أن سبب الحرب رفضهم تمويل السد العالى فكان تأميم قناة السويس، وكان بناء السد العالي بالرغم من كل المشكلات المتوقعة.
فور اﻹنتهاء من سماع الخطاب كتبت أقول: "سد يا ايدن سد/ أوعى تكلم حد / ح نبني السد وأنت هناك / وتعيط ونقول لك / سد.." لعلها أول محاولة تعبيرية وفيها رؤية طفل متحمس (وايدن هو رئيس وزراء بريطانيا).. واضح أنها كلام مسجوع ومحاولة لكتابة الشعر، لكنها كانت السبب لأن أظن أنني شاعر!
فلما كانت الوحدة مع سوريا ثم الانفصال، وهو ما لم يستوعبه عقلي الذي جاوز العشر سنوات بقليل، ما دفعنى لأن أبحث عن مصدر آخر من المعلومات والمعرفة بعيدًا عن خطب عبد الناصر! فبدأت رحلاتي الأسبوعية لسور الأزبكية وشراء الكتب بقرش صاغ واحد والكتاب الثمين بخمسة قروش، وبذلك لم أعد أتابع كتب مدعمة من الدولة فى الستينيات وتهدف ﺇلى تثقيف وتعبئة الأجيال، منها السلاسل: اخترنا للطالب- اخترنا للفلاح- اخترنا للعامل- اقرأ- وكلها سلاسل عن دور نشر متفرقة، تم دمجها كلها فى هيئة الكتاب المصرية فيما بعد، ﺇلا دار المعارف التى بقيت وكبرت ولها شخصيتها ودورها حتى الآن.
خلال تلك الفترة تعرفت على كتب الأدب الروسى القديم، وأعلام الرواية هناك، ما صادف معي قبولا نفسيا، فمنذ أن كففت محاولة كتابة الكلمات المسجوعة على أنها شعر.. بدأت أنجذب لهذا الشكل الجديد المسمى القصة او الرواية.
الحقيقة أن الفترة التالية لنكسة عام 67، اتحهت دور النشر (الحكومية) وهي أغلب الدور الكبيرة، نحو ﺇعادة تعبئة الشعب بمزيد من كتب التراث كما ﺇتجهت "دار الشعب" ووفرت تفسير القرآن بقلم محمد فريد وجدى، وكتابات سليم حسن حول التاريخ المصري القديم، والسيرة الهلالية.. والكثير من أمهات الكتب التى تنشر مسلسلة كل عدد بعشرة قروش، وهو مبلغ كبير قي حينه ومع ذلك لم تكن هناك مرتجعات.
أظن أنني تشكلت ثقافيًا خلال تلك الفترة، بداية من حرب بورسعيد ومرورًا بأحداث السد العالي ثم الوحدة مع سوريا واﻹنفصال ثم نكسة 67.. سواء بالمزيد من القراءات والبحث أو محاول الكتابة واﻹبداع من جديد.. حيث لم تنقطع القراءات الأدبية لأعلام تلك الفترة ونماذج جيل الستينيات الذي راج أدبيا فى تلك الفترة.
كان يكفي لأديب أو شاعر أن يصدر كتابه الأول حتى تتبناه جهات تحددت ملامحها السياسية وملامح ﺇصداراتها.. د.رشاد رشدي يتبنى اليمين وكل من هو نقيض اليساريين.. ثم محمود أمين العالم يتبنى كل من هو يسارى.. ولكل منهما مطبوعات وقس الدوريات على هذا الأساس؛ مجلة الطليعة وروزاليوسف على رأس اليسار المصرى.. ثم الجديد وصباح الخير على رأس اليمين.. وعلى المبدع اختيار ما يراه ملائما ويحقق نفسه فيه، نفعيا أو عن قناعة وﺇيجاد فرصة للنشر والتواجد!
.. كان السادات صاحب موقف معلن (تقبله أو ترفضه) هو ضد الشيوعية أو اليسار أو ﺇشتراكية عبد الناصر، وتابع خطواته التى جردت الثقافة المصرية من أية ملامح. خلال تلك الفنرة من الستينيات كنت أكثر وعيا بالواقع الثقافى.. حيث بدأت التعرف على الناقد المرحوم "عبدالرحمن أبوعوف" وعن طريقه تعرفت على عدد من كبار كتاب الفترة وربما القرن.. مثل نجيب محفوظ، ثروت أباظة، عبدالحميد جودة السحار.. وربما أتناول تلك المقابلات فيما بعد.. لكن المهم الآن أن محصلة الستينيات سياسيًّا، وفى مجال القراءة الحرة، أن قررت الكتابة السردية، أى كتابة القصة والرواية.. نشرت أول قصة لى "ليلة من ألف وخمسمائة ليلة" بمجلة روزاليوسف (عام 1970م) التى كانت تعتبر على رأس الدوريات الأسبوعية فى تلك الفترة.
* أدى اشتراكك في حرب أكتوبر إلى عملك على "أدب الحرب" وزادك هذا استغراقًا في القضية الفلسطينية ما أنتج "أدب المقاومة" لنبدأ بسؤال: ما أدب الحرب؟
الحقيقة ما كنت أكتبه من قصص قصيرة خلال معارك 73 وما بعدها بشهور قريبة جدًا، لم يخطر ببالي أننى أكتب أدب حرب.. كنت أكتب حول تجربة أعيشها تعبر عن ملامح الأيام الصعبة التى نعيشها نحن الجنود.. فالجندى فى الحرب لا يعرف معنى الانتصار أو الهزيمة ولا يعرف دلالة الموت واﻹستشهاد ولا يتوقع الأمجاد والكلمات الرنانة.. الجندى فى ميدان المعارك يسعى لتحقيق هدف يؤمن به مع مشقة ورغبة الدفاع عن الحياة.. من هنا كانت الاقتحامات التى يمارسها البعض لبؤر الأخطار هى ذروة البطولة عندنا فيما بعد، لكنها بالنسبة له فلا يفكر للحظة أنه باقتحامه هذا سوف يموت.. الجندى يستبعد فكرة الموت ويجل محلها محاول الدفاع عن الحياة.. وهو السر وراء كل البطولات التى نسمع عنها فى الحروب.. وما عرفته فى حرب 73.
حدث أن علمت أن صديقى الفنان ورسام الكاريكاتير أحمد عزالعرب ينهض مع بعضهم فى منظمة الشباب الاشتراكى باصدار مطبوعة يومية تباع بقرش صاغ وهى ملزمة فى 16 صفحة، اتصلت به وتقابلنا فى مقهى أستراند القديمة بميدان التحرير وفى كل إجازة ميدانية يتسلم قصة قصيرة وينشرها.. وكلها معبرة عن التجربة الحربية التى أعيشها.
لقد كانت الكتابات الإبداعية خلال تلك الفترة تحت مسمى اصطلاحى "أدب أكتوبر" ولم يكن مصطلح "أدب الحرب" شائعا"، وبمضى سنوات قليلة كتبت وغيرى كتب حول رفض مصطلح أدب أكتوبر لأنه يعبر عن تجربة ضيقة من تجارب الحرب أو كأن ما كتب عن حرب اكتوبر سقط وحده من السماء.. وهكذا شاع مصطلح أدب الحرب!
ومنذ تلك السنوات البعيدة بدأت أكتب في تنظير أدب الحرب، فى مجموعة من المقالات واحتفظ بها ولا أرسلها للنشر.. فيما بعد أرسلت ثلاثة منها إلى د.ابراهيم حمادة رئيس تحرير القاهرة القديمة، ما أدهشنى انه نشرها كلها مع الكثير من الاحتفاء بها وبي.. وتوالى الاهتمام بالتنظير حتى انتهيت بطباعة كتاب عام 1995 بهيئة الكتاب هو الأول فى مجال تنظير أدب الحرب باسم "الحرب: الفكرة-التجربة- الإبداع".
هنا أرصد الآتى: رفض البعض مصطلح أدب الحرب وأفاد بأن الأدب الغربى والنقد هناك لا يستخدم المصطلح (أتذكر أن أ.حسنى صاحب دار نشر خاصة قالها لي، بعد أن فتح كتابا للمصطلحات بالالمانية!).. كما رفض المصطلح وتجاهلوه نقديًا العديد من النقاد العرب والمصريين طوال أكثر من عشر سنوات بعد الحرب وفى كل عام تشير صفحات الأدب بالصحف للاحتفال بأكتوبر على اعتبار المصطلح غير معبر عن أدب أكتوبر.. أو على الأقل لا يوجد ما يسمى أدب الحرب نقديا.. جتى أن أحدهم قال : غدا سوف نقول بأدب الحارة وأدب الشارع!"
أدعي أنني عبرت عن تعضيدى وترويجى للمصطلح، حتى نشرت كتاب "الحرب:الفكرة-التجربة- اﻹبداع" بهيئة الكتاب عام 1995م ضمن سلسلة "أدب الحرب" وهو ما رسخ للمصطلح الكثير من مفاهيمه ودلالاته.
* ما خصائص أدب الحرب وأدب المقاومة؟ وما أهم النصوص التي تمثله؟
- لعل أهم الأعمال هي التي تدعو للدفاع عن الحياة، وليست التي نزكي العنف ولا تجعل القاريء يتفهم البعد الانساني وراء هذا العنف وهي أهم ما يتميز به أدب الحرب الجيد. أما اهم خصائص أدب المقاومة هي تلك الاحوال التي نستشعرها بعد الانتهاء من الاطلاع على العمل أو النص، ونجد أنفسنا منحازين الي الضعفاء أو المطحونين أو المظلومين.. في مواجهة قوى الفساد والشر والاضطهاد.
* قادتك ابنتاك للكتابة عن أدب الطفل فاكتشفت أن حلا كبيرًا للمشكلة التي نعيشها يكمن مع هذا الطفل.. كيف كان ذلك؟
- هي المقاومة بمعنى ما، تلك التى دفعتنى لأن أتبنى الكتابة للطفل باﻹضافة ﺇلى كتابة الرواية والقصة القصيرة، حيث بان لي أن الطفل هو لبنة المجتمع والكتابة بمفهوم المقاومة بما يتناسب مع الطفل لون أدبى لم أقتحمه من قبل ويجب اقتحامه، وقد أنجزت فيه حتى الآن 22 كتابًا في القصة والرواية للطفل وثلاثة كتب تبسيط علوم، ثم هناك عدد كبير لم ينشر بعد ومنها ﺇعادة صياغة حدوتة "سندريلا" بالمفاهيم المقاومية.
بينما بدت ذروة اهتمامي بالطفل والمقاومة معا، عندما أنجزت كتاب "الطفل والحرب فى الادب العبرى"، وأعلم أن الأدب الحديث العبرى غير مطروح للدرس فى أقسام اللغة العبرية بكليات الآداب، وبالتالي الترجمات تكاد تكون نادرة.. ﺇلا أننى أعتمد على ما طرحة البحث من نصوص مترجمة فى متن الكمبيوتر.. وانتهيت بالعديد من الملامح فيما يخص تلقين الطفل العبرى من شعارات وأفكار وأيديولوجية.
* تعمل على الثقافة الرقمية وأصدرت عددًا من الكتب إضافة عدد من البحوث والمقالات.. كيف بدأ هذا الأمر معك؟
- لما شاع الكمبيوتر ومارست التعامل معه وتعلمت بعض أسراره بالممارسة وليس بالدرس (حتى الآن أكتب باﻹبهام وحده، حتى انتهيت من جملة كتبى وكل مقالاتى منذ عام 2000 حتى تاريخه).
القدر قد يتيح فرصة لا نخطط لها، حيث تعرفت عن الكمبيوتر والأصدقاء أحمد شبلول، منير عتيبة، حسام عبدالقادر.. وعلى بعض الكتاب العرب فى الأردن والعراق وسوريا والمغرب والسعودية، ومنها المجموعة التى أنشأت ﺇتحاد كتاب الإنترنت العرب عام 2005م. وهو ما روج للأدب الرقمي والثقافة الرقمية، وقد عقدت أكثر من ندوة ومؤتمر فى ليبيا وتونس والإسكندرية وبالقاهرة أيضا وغيرها.
.. وكانت فرصة النشر اﻹلكتروني حيث بدأت بنشر الكثير من الدراسات والمقالات حول أدب المقاومة، وقد وجدت صداها فى مصر والعديد من الدول الأخرى مثل السعودية والمغرب ولعل اطرفها رسالة أحد الدارسين للغة العربية فى باكستان ورسالة الماجستير حول ملامح المقاومة بين محمد اقبال وشاعر عربى (لعله محمود درويش).
ثم كانت فرصة تالية فى النشر الالكترونى أن اتناول بالتحليل والبحث فى مصطلحات وخصائص الثقافة الرقمية الجديدة.. والتى انتهت بنشر ثلاثة كتب حول الثقافة والنشر الالكترونى واﻹبداع الرقمي.
* هل كان النشر الإلكتروني متنفسًا لنشر أدب المقاومة؟
- نعم، أظن ذلك. ولعل حصيلة ما نشر نشرًا الكترونيا الآن تضمن العديد من القصص القصيرة والروايات وقص أدب الطفل وكتب دراسات أدب المقاومة والثقافة الرقمية.. كم هى خدمة جليلة لي وللاجيال التالية من بعدى على الرغم من بعض السلبيات.
* في ضوء هذه التجربة هل نحن صالحون للدخول في هذا العالم؟
- سؤال قاس من مثقف يمارس التعامل مع الشبكة الإلكترونية منذ سنوات بعيدة.. فأنت تعلم أن عقدة التقنية الجديد والجلوس ﺇلى الكمبيوتر هى "التعود والاعتياد".. وإن سألت أحدهم لماذا لا تتعامل مع الجهاز يخبرك عن تخوفه والشعور بالرهبة.. هو حاجز نفسى قبل أى شيء آخر؟
هذه نقطة والنقطة الأخرى أن الجيل االجديد حتى سن الصبا يتفوق علينا بصورة مدهشة، وهي تجربتي مع أحفادي ويمكن أن أقص عليك ما يعني أن أحفادى من سنتين ونصف عمرا حتى أكبرهم فى السابعة أكثر منى حنكة فى الممارسة العملية على الموبايل والتاب وغيرهما. لكن هناك ما يلزم أن نقوم به وهو استكمال البنية التحتية للشبكة الالكترونية، وتوفير كل الخدمات بالأسعار الرخيصة، مع دورات تدريبية لفنون الكمبيوتر مثل اﻹبداع الرقمى والبرمجيات وغيرها، ولدينا فرصة رائعة فنحن ضمن أول ثلاث دول عربية في استخدام الإنترنت.. وملامح الفجوة الرقمية بيننا وبين بعض الدول العربية الأكثر ثراء عنا تقل جدًّا.